انهيار العدالة وضياع الحقوق

*قول فصل*

 

*همام علي مصطفى – أستاذ القانون الدولي— يكتب:*

 

*خطأ محكمه العدل الدوليه.. انهيار العداله وضياع الحقوق*

 

اليوم 5 مايو 2025، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا برفض الدعوى المقدمة من السودان ضد الإمارات العربية المتحدة، والتي اتهم فيها السودان الإمارات بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، من خلال دعمها لميليشيا الدعم السريع التي ارتكبت جرائم ضد قبيلة المساليت في دارفور. وقد بررت المحكمة قرارها بعدم الاختصاص، استنادًا إلى التحفظ الذي أبدته الإمارات على المادة 9 من الاتفاقية، والتي تمنح المحكمة ولاية قضائية إلزامية للنظر في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية وهذا القرار يمثل مشكلة قانونية بعدة اتجاهات .

 

أولًا: السياق القانوني لاتفاقية الإبادة الجماعية

 

اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 تُعد أحد الأعمدة الأساسية في القانون الدولي الإنساني، وتهدف إلى منع وردع الجرائم الجماعية ذات الطابع العرقي أو القومي أو الديني. وتنص المادة 9 منها على أن أي نزاع بين الأطراف حول تفسير أو تطبيق الاتفاقية يُحال إلى محكمة العدل الدولية، ما لم يُبْدِ أحد الأطراف تحفظًا على هذه المادة وقد استخدمت الإمارات هذا التحفظ في وثيقة انضمامها، وهو ما دفع المحكمة إلى الإعلان عن عدم اختصاصها، رغم أن السودان نفسه ليس من الدول التي قدمت تحفظًا على هذه المادة.

 

ثانيًا: إشكالية التحفظ على المادة 9 وتأثيره على العدالة

 

من الناحية القانونية الشكلية، يحق للدول تقديم تحفظات على بعض أحكام المعاهدات الدولية، ما لم تتعارض هذه التحفظات مع الغرض والغاية الأساسية للمعاهدة، وذلك وفقًا لأحكام اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 (المادة 19). لكن في حالة الاتفاقيات ذات الطابع الإنساني، مثل اتفاقية الإبادة الجماعية، فإن التحفظ على آلية المساءلة – كما في المادة 9 – يمكن أن يُعد تقويضًا جوهريًا لهدف الاتفاقية وقد عبر بعض الفقهاء القانونيين عن قلقهم من أن السماح بهذه التحفظات يفتح الباب أمام إفلات الدول من المسؤولية الدولية، خصوصًا في ظل وجود أدلة تشير إلى دعم الإمارات لميليشيا ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وبالتالي فمامعنى انضمامك للاتفاقية طالما ترفض المساءلة بل وما فائدة الاتفاقية نفسها اذا كان لا يمكن تطبيقها.

 

ثالثًا: على من تقع المسؤولية؟ بين الدولة والفواعل غير الرسمية

 

أحد الجوانب القانونية الهامة في هذه القضية يتعلق بمسؤولية الدول عن تصرفات الفواعل غير الرسمية مثل المليشيات أو القوات غير النظامية. وقد أرست محكمة العدل الدولية في قضية البوسنة ضد صربيا عام 2007 مبدأً مفاده أن الدولة تتحمل المسؤولية الدولية إذا ثبت أنها “مارست سيطرة فعالة” أو وفرت “دعمًا ملموسًا” لجهة ارتكبت أعمال إبادة جماعية وفي القضية الحالية، قدم السودان أدلة على رحلات جوية نُفذت بين الإمارات وتشاد ودارفور، استخدمت لنقل السلاح إلى ميليشيا الدعم السريع، بالإضافة إلى علاقات مالية عبر شركات مسجلة في الإمارات وكميات كبيرة من الاسلحة التي تحمل اشارات واسم الامارات.

 

رابعًا: قصور المحكمة في تطبيق مبدأ الحماية الدولية

 

محكمة العدل الدولية مطالبة، بوصفها الحامي القانوني الأخير للقانون الدولي، بأن تنظر ليس فقط في النصوص القانونية الشكلية، بل في روح القانون أيضًا. وقد كان بإمكانها – كما فعلت سابقًا في قضايا أخرى – أن تستخدم سلطتها التقديرية لتفسير نطاق التحفظ بشكل ضيق إذا ما تبين أن التحفظ يُستخدم لمنع المساءلة في قضية تتعلق بانتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني فإن رفض المحكمة النظر في القضية بناء على تحفظ شكلي، دون الخوض في الأدلة الموضوعية، قد يُفسّر على أنه إفراغ للاتفاقية من مضمونها، ويقوض الهدف الجوهري منها، وهو الردع والمساءلة.

 

خامسًا: تداعيات القرار على النظام القانوني الدولي

 

يمثل هذا القرار سابقة خطيرة من شأنها تشجيع الدول على استخدام التحفظات كدرع يحميها من أي محاسبة دولية مستقبلية. وهو ما يتعارض مع التوجه الحديث في القانون الدولي نحو مساءلة الدول والأفراد على حد سواء عن الجرائم الجسيمة مثل الإبادة الجماعية وجرائم الحرب وبهذا فأن قرار محكمة العدل الدولية برفض دعوى السودان ضد الإمارات لم يكن خطأً قانونيًا فحسب، بل يمثل نكسة لمفهوم العدالة الدولية ذاته. فبينما تحتمي الدول بالقانون الدولي لتفادي المسؤولية، يظل الضحايا، مثل المساليت وغيرهم في دارفور، خارج إطار الحماية الفعلية. إن هذه القضية تُشكل دعوة عاجلة لإصلاح آليات الاتفاقيات الدولية وتعزيز ولاية المحكمة، بما يضمن ألا تتحول العدالة الدولية إلى مجرد نصوص خالية من الروح.

  • Related Posts

    السودان بين نيران نطنز ولهيب الأسواق العالمية

    *السودان بين نيران نطنز ولهيب الأسواق العالمية* ➖⬛➖ مع الساعات الأولى من يوم الجمعة 13 يونيو 2025، نفّذت إسرائيل ضربة عسكرية على منشأة نطنز النووية الإيرانية، في تطور خطير أعاد إشعال التوتر في الشرق الأوسط، لكنه أيضًا أطلق سلسلة ارتدادات اقتصادية مدوية في الأسواق العالمية. لم تكن الضربة مجرد عملية عسكرية محدودة، بل رسالة واضحة بأن المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب باتت على الأبواب، ومعها تحركت الأسواق كما لو أن الحرب قد بدأت فعلًا. أسعار النفط كانت أول من استجاب، حيث قفز خام غرب تكساس بنسبة فاقت 12% وسط مخاوف من أن تردّ إيران بإغلاق مضيق هرمز، وهو ممر حيوي يمر عبره جزء كبير من إمدادات النفط العالمية. التصعيد المحتمل رفع التقديرات بأن تصل أسعار النفط إلى 100 دولار أو أكثر، وهو ما سيضغط على اقتصادات العالم، خصوصًا تلك التي تعتمد على واردات الطاقة، في وقت لم تتعافَ فيه بعد من أزمات ما بعد الجائحة والحرب في أوكرانيا. المستثمرون هرعوا كعادتهم إلى الملاذات الآمنة، فارتفع الذهب إلى مستويات تجاوزت 3,400 دولار للأونصة، بدعم من التوترات الجيوسياسية وتوقعات تخفيض أسعار الفائدة الأميركية في سبتمبر. كما ارتفع الدولار مقابل معظم العملات، وتعرضت أسواق المال في آسيا وأوروبا لخسائر سريعة. الخوف لا يحتاج إلى تبرير حينما تكون الصواريخ قد استهدفت منشأة نووية في بلد بحجم إيران، والعالم بأسره على حافة بركان. أما السودان، فهو من الدول الأكثر تأثرًا بهذه التطورات، نظرًا لوضعه الداخلي الحرج. فالاقتصاد السوداني المنهك أصلًا بفعل الحرب الدائرة في البلاد يواجه الآن أزمة إضافية. ارتفاع أسعار النفط يعني زيادة تكلفة استيراد الوقود، ما سيزيد التضخم بشكل حاد، ويُضعف الجنيه السوداني أكثر أمام الدولار. أسعار السلع سترتفع تلقائيًا، والدولة التي تفتقر للاحتياطيات ولشبكات دعم فعّالة ستكون عاجزة عن مواجهة الزيادة المتوقعة في تكاليف المعيشة. ورغم أن السودان يملك ورقة رابحة نظريًا عبر صادرات الذهب، إلا أن عدم الاستقرار الأمني يمنع تحقيق استفادة فعلية من ارتفاع أسعار المعدن الأصفر. تهريب الذهب مستمر، وسيطرة الحكومة على العائدات محدودة في ظل الحرب، ما يضيع فرصة الاستفادة من هذه الظروف العالمية الاستثنائية. وفي خضمّ هذه التحديات، لا بد من التأكيد أن السودان لا يملك ترف الانتظار أو الترقب. أي تأخير في حسم الحرب سيضاعف الكلفة الاقتصادية، وسيزيد من هشاشة الدولة والمجتمع. المطلوب اليوم استراتيجية حاسمة لإنهاء الحرب عسكريًا، واستعادة السيطرة على المنافذ الحيوية، وفرض القانون على منابع الإنتاج والصادرات، لا سيما الذهب. فالمجتمع الدولي في هذه اللحظة مشغول بأزمة الشرق الأوسط، ولن يلتفت إلى السودان ما لم يتحرك من الداخل ويعيد ترتيب أوراقه. الضربة الإسرائيلية للمواقع النووية الإيرانية أطلقت ديناميكية جديدة في الاقتصاد العالمي، عنوانها القلق وعدم اليقين. أما السودان، فإن لم يتحرك الآن وبشكل حاسم، فقد يجد نفسه وسط إعصار لا يملك فيه لا القدرة على المواجهة ولا خيار الهروب. *محمد كمير*

    Read more

    Continue reading
    مهمة وطنية في لحظة حرجة: كيف تدعم النخب ومنظمات المجتمع المدني د. كامل إدريس في إنجاح التحول؟!

    *مهمة وطنية في لحظة حرجة: كيف تدعم النخب ومنظمات المجتمع المدني د. كامل إدريس في إنجاح التحول؟!.* ➖️◾️➖️ ▪️في لحظةٍ تتداخل فيها آلام الماضي بتحديات الحاضر، وتطلعات المستقبل، يتسلّم الدكتور كامل إدريس مسؤولية رئاسة الوزراء في السودان، محاطًا بميراث من الأزمات وفرص قليلة، ولكن ثمينة. رجل قادم من فضاء القانون الدولي والإدارة الرصينة، لكنه يواجه واقعًا محليًا معقدًا يحتاج إلى أكثر من الكفاءة الفردية. وهنا، يبرز السؤال المحوري: كيف يمكن للنخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تكون سندًا حقيقيًا لهذا المسار؟ لا عبئًا إضافيًا عليه؟!. 1 *.. النخب السياسية: من الخصام إلى التوافق!.* ▪️لقد أنهك السودان صراعه النخبوي الممتد لعقود، حيث غلبت المصالح الحزبية الضيقة على الرؤية الوطنية الجامعة. اليوم، الواجب الأخلاقي والسياسي يحتم على هذه النخب أن: 🔸️تضع حدًا لخطاب الإقصاء والتشكيك المتبادل، و تلتزم بميثاق شرف وطني يدعم العملية الانتقالية. 🔸️تتبنى خطابًا سياسيًا عقلانيًا وبنّاءً يقدّم المصلحة العامة على المكاسب الفئوية. 🔸️تمنح رئيس الوزراء مساحة من الثقة والهدوء السياسي ليعمل دون ضغوط شعبوية أو مناورات حزبية. 🔸️تشارك في رسم الأولويات الوطنية من خلال الحوار لا عبر التصعيد أو التخريب. ▪️إن أخطر ما يهدد حكومة انتقالية يقودها تكنوقراط مستقلون، هو أن تتحوّل القوى السياسية إلى معاول هدم باسم المعارضة بدل أن تكون شركاء بناء باسم الوطن. 2. *منظمات المجتمع المدني: من الشكوى إلى الشراكة* ▪️هذه المرحلة تتطلب من منظمات المجتمع المدني أن تعيد تعريف دورها، لتصبح: 🔺️*أدوات ضغط إيجابي، لا صدى سلبي للشكاوى فقط.* 🔺️*شركاء في التوعية، ومراقبة الأداء، وبناء الثقة الشعبية.* على هذه المنظمات أن: 🔸️تفعّل أدوات الرقابة المجتمعية على الأداء الحكومي، بمهنية لا بعدائية. 🔸️تدعم جهود المصالحة الوطنية، والتماسك الاجتماعي، خاصة في المجتمعات المنهكة من النزاعات. 🔸️تسهم في حملات التوعية الاقتصادية، ومحاربة الشائعات التي تعرقل الإصلاح. ▪️تمد الحكومة بالمقترحات العملية والتقارير الميدانية حول أولويات المجتمعات. ▪️إن منظمات المجتمع المدني يمكن أن تكون بمثابة الأذرع الناعمة للدولة، إذا أحسنت التموضع وابتعدت عن الاستقطاب السياسي. 3. *كامل إدريس… رجل المرحلة ولكن..* ▪️يمتلك د. كامل إدريس رصيدًا دوليًا من النزاهة والكفاءة، لكن النجاح في الحكم داخل السودان لا يتوقف على المؤهلات وحدها، بل على القدرة في: ▪️إدارة التوازنات الدقيقة بين القوى المدنية والعسكرية. ▪️مخاطبة الشارع بلغة واقعية وأمل، بعيدًا عن الوعود المجانية. ▪️بناء تحالف وطني عريض يضم النخب السياسية والمجتمعية حول برنامج إنقاذ وطني حقيقي، لا مجرد حكومة تسيير أعمال. ▪️وهنا، يكون دور النخب هو منح هذا المشروع السياسي الحصانة المعنوية والسياسية، لا دفعه للفشل وتوظيفه كورقة انتخابية مسبقة. *خاتمة* ▪️هذه اللحظة ليست لحظة أشخاص، بل لحظة مصير أمة. كل الذين يراقبون المشهد من منصات الانتقاد أو المواقف المسبقة، مدعوون اليوم إلى الانخراط الإيجابي في مشروع إنقاذ السودان. فنجاح د. كامل إدريس ليس نجاحًا لحكومة مؤقتة، بل فرصة أخيرة لعودة الدولة السودانية إلى مسارها الطبيعي. *د. عبدالرؤوف قرناص*

    Read more

    Continue reading

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *