
*من قلوبنا إلى قبره وإلى السماء*
➖◼️➖
رسالة في الذكرى السنوية لاستشهاد شقيقى وليد مصطفى حسنين.
بسم الله… باسم من يمحو بالحزن ذنوب القلوب… باسم من جعل للشهداء أعراساً في العُلى…
يا أيّها القلبُ الذي لا ينام… يا أيّها الليلُ الذي لا يُضيء… يا أيّها الدمعُ الذي لا يجف… يا أيّها الحزنُ الذي صِرنا له وطناً…
عامٌ مرّ — بل أحقاب… يا للهول كم يمضي الزمان ولا نمضي!
عامٌ مرّ على وداعٍ ما اكتمل، وعلى قبرٍ ما قُفل، وعلى جنازةٍ ما انتهت؛ لأنّنا نحن جنازتها التي تسير كلّ يوم.
شقيقى.. اخي … أخانا… يا من صرتَ لنا حُلماً معقوداً على جناحِ طيف، ويا من علّمتنا أن الموت قد يليقُ بالحياة أكثر من حياةٍ بغير شرف.
لم نُغنّ في وداعِك… لم نُطلق زغرودةَ الشهادة… لم نُحسن المأتم، لأنّ القلبَ ما وسِعَ الجرح.
كيف نزفّك وقد نزفتَ أنت؟
كيف نُبارك شهادتك وقد تهدّمت أعمدتنا من بعدك؟
قالوا: مات شهيداً… قلنا: بل حيٌّ عند مليك مقتدر، ولكن نحنُ الأموات من بعدك!
أيها الحبيبُ الذي كان يؤذّن للصلاة ، قامت لك ملائكة السماء حين سقطت شهيداً…
يا من لبّيتَ نداء الأرض والعرض في الحماداب — أرضُ الأجداد الطاهرة — فارتفعَ لواءُ دَمعنا مع دمِك…
يا أرضَ حمّاد يا نبضَ الدُّنا…
يا طِيبَ رَوضِ المجدِ والأعراقِ
يا تربةً سُقِيَتْ بِدَمْعِ عُيونِنا…
وَسُقِيَتِ الفَخرَ العتيقَ بِذاكِ
فيكِ الجُذورُ بَسَقتْ إلى أعْلامِها…
وغَدتْ تُطاولُ هِمَّةَ الأفلاكِ
مِنكِ الفُحولُ.. ومنكَ سِبطُ جُدودِنا…
ما لانَ جِذعُ النخلِ في الأرْياقِ
واليومَ إذْ سالَ الدِّما في تُربِكِم…
غَسَلَ الغُبارَ.. وجَدَّدَ المِيثاقِ.
أيها الساري في خيالاتنا:
هل ترى أيّ قلوبٍ بعدك؟ هل تسمعُ شقشقةَ الدمع كلّ فجر؟
هل تدنو روحُك حين نجلسُ عند قبرك وتغني الريحُ فوقه؟!
كتب أبو تمام:
هَيهاتَ ما يُغني التذَكُّرُ وَالتَّندُّمُ
حينَ الجِراحُ تَسيلُ وَالدَّمُ يُسجَمُ
أخي…
كأنّي بكَ الآن في روابي الفردوس، والنورُ يكسوك، والريحانُ يعبق…
كأنّي بنا: في أرضٍ ظُلماؤها لا ينجلي، وفي دنيا صَمتُها موجعٌ كالرصاص…
ما بال الحماداب؟ ما بال نخيلِها شاحبٌ؟ ما بالُ ثراها دامعٌ؟ ما بالُ النّجومِ فيها باكية؟
لأنّها افتقدتْ فارساً… ولأنّا افتقدنا الأخ… ولأنّ الأمهاتِ اليوم يَندبنَ وليداً كان لهنَّ عَصبَ القلب.
يا أمّاه… صبرا، فإنّ ابنكِ في دارٍ لا جورَ فيها ولا غدر.
يا أبي… صبرا، فإنّ الدمَ الذي أُريقَ هناك صار عهداً بيننا وبين السماء.
امى تُناديكَ الدُّموعُ لِسانُها…
والصدرُ منهُ تأوُّهٌ باكِ
وأبٌ تُكفكفُ صَبرَهُ سُوْرُ الهُدى…
لكنّهُ شَجَنٌ يُمزّقُ زاكي
إخوانكَ الشُّمُّ الأُباةُ.. قلوبُهم…
نُسجَتْ على وَترِ الحنينِ شِباكِ
والأُختُ تُطوي لَيلَها في وَجْدِها…
تَسقي ثرى القَبرِ البعيدِ خُطاكي.
يا إخوتي… صبرا، فإنّ الشهيد حيٌّ، ونحنُ الذين نموتُ في كلِّ لحظةِ حنين.
وإنّا على الدربِ سائرون، وإن طال الدرب، وإن اشتدّ الحزن…
في ذكرى هذا اليوم الأسود النوراني — يومٍ خُطَّ فيه اسمُك على لوحِ الخلود — نقفُ عاجزين عن مواساةِ أنفسنا.
كيف نعزّي أرواحاً غدت مقابر؟ كيف نعزّي قلوباً غدت مقسّمةً بين قبرك وسماءك؟
عن عليّ بن أبي طالب:
“الصبرُ صبران: صبرٌ عندَ الصدمةِ الأولى، وصبرٌ على ما تليه من لهيبِ الأيام.”
واللهِ إنّا لصابرون… وإنّا لباكون… وإنّا لمكلومون…
لكنّا نحتسبك — يا نور القلب — عند الله سيّداً من الشهداء…
ولعلّ هذا العزاء هو البلسم الوحيدُ لجراحِنا التي لا تلتئم.
وفي آخر الكلام:
ما غِبْتَ عنّا يوماً، بل نحنُ الغُيّابُ في حضرتك…
وما ودّعناكَ حقّ الوداع… بل عِشنا على وَدٍّ لم يُكمل.
كُتِبَ في الأثر:
“من قدّمَ شهيداً… نُقِشَ اسمهُ في سِجِلِّ المجد… وكانت له عندَ الله منزلةُ العليّين.”
– سلامٌ عليكَ في ذكراك…
سلامٌ عليكَ في دُجى ليلنا الباكي…
– سلامٌ عليكَ حينَ يؤذّن المؤذِّن ونحنُ نذكرك إماماً…
– سلامٌ عليكَ حين نَشهقُ باسمك فلا نُكمل…
– سلامٌ عليكَ يومَ قُتلتَ مظلوماً فأصبحتَ من الفائزين.
يا أخي… سنحيا على عهدك… ونُبقي ذكراك مشعلاً في ظُلمة الطريق…
أخي.. إذا حانَ اللِّقاءُ وَجِئْتَنا
هل تَسمعُ الآهاتِ في أفواكِ؟
يا من نَذرتَ الرّوحَ للعِرضِ الذي
يُغلى على مِيزانِ كلِّ فَكاكِ
نمْ يا شَهيدَ العِزِّ في أبهى الرُّبا
نمْ فوقَ تاجِ المجدِ والإدراكِ
لو جفَّ دَمعُ العَينِ.. قَلبُك دَمعُنا
لو ماتَ لحنُ الشِّعرِ.. أنتَ غِناكِ
ما ماتَ مَن وَهَبَ الدِّما وَصَفا بها
أرضَ الجدودِ.. ومَجدَهم وَعُلاكِ
يا ربَّنا.. هذي القُلوبُ نَشيجُها
فارحَمْ حبيبًا طافَ في مِسراكِ
واجعَلهُ في دارِ السّلامِ مُبَجَّلًا
واسقِ القُبورَ نَدىً.. مِـنَ ذكراكِ
*إنا لله… وإنا إليه راجعون*
عقيد شرطة م
*حسنين مصطفى حسنين عثمان*