لماذا نتفاوض مع الإمارات؟ وعلى ماذا يدور هذا التفاوض؟ (١-٢)

*لماذا نتفاوض مع الإمارات؟ وعلى ماذا يدور هذا التفاوض؟ (١-٢)*

➖️▪️➖️

*خلفية التفاوض : من المليشيا إلى الدولة الراعية*

أصبح الحديث علنيًا في أروقة السياسة العامة والخاصة يدور حول التفاوض مع الإمارات، وليس مع المليشيا. فقد انقضى أمر هذه الأخيرة، ويُنتظر إعلان انهيارها التام في أي لحظة مع تقدم طلائع الجيش إلى دارفور.

▪️الحقيقة أن محاولات التفاوض مع الإمارات لم تتوقف، أو لنقل إن مساعي الإمارات للتواصل مع السودان لإيجاد مخرج من مأزقها لم تنقطع. في هذا السياق، شهدنا اتصالين معلنين: الأول في 19 يوليو 2024، حين تواصل محمد بن زايد مع الرئيس البرهان بوساطة إثيوبية عقب زيارة رئيس إثيوبيا إلى بورتسودان. أما المناسبة الثانية فكانت في 20 يناير 2024، حين شاركت الإمارات في مفاوضات سودانية-سودانية فيما عُرف باتفاق المنامة.

▪️هناك العديد من التقارير التي تشير إلى لقاءات غير معلنة، وآخرها تقرير من “Africa Intelligence” الذي أشار إلى رفض الجيش السوداني المشاركة في اجتماع سري مع الإمارات في 12 مايو 2025 بسبب مطالب مبالغ فيها من أبوظبي. ولم يحدد التقرير تلك المطالب، وراجت أنباء أن الإمارات طالبت بضرب الإسلاميين ومنحها استثمارات محددة كشرط لوقف الحرب،

غير أن هذه التقارير لم تُؤكد من مصادر رسمية أو مصادر موثوقة. لكن يظل السؤال قائمًا: لماذا التفاوض مع الإمارات؟ وما هي محددات هذا التفاوض؟ وعلى ماذا يدور تحديدًا؟ هذا ما سنناقشه في هذا المقال.

2

عندما يتمدد تمرد داخلي إلى هذا الحد، ويبلغ هذا المستوى من التسليح والمساعدات اللوجستية، ويصمد لسنوات رغم ضراوة المعارك، يصبح السؤال المركزي: من أين له كل هذا الدعم؟

الدعم الكبير والمؤكد الذي تلقته قوات الدعم السريع من الإمارات أصبح حقيقة مثبتة في تقارير الأمم المتحدة، والتحقيقات الدولية، وشهادات شهود الحرب، وحتى في أروقة الكونغرس الأمريكي. لم يعد الأمر محل جدل. التفاوض مع الإمارات إذًا ليس تراجعًا عن مواجهة العدو الداخلي، بل هو اعتراف سياسي بأن المليشيا لم تكن سوى أداة عسكرية لمشروع خارجي، وأن مفتاح الحل لم يعد في الميدان، بل في أبوظبي.

3

لماذا التفاوض مع “دولة العدوان”؟

لأن معادلة الحرب تغيّرت، فمن يملك قرار استمرار أو إنهاء الحرب لم يعد قادة المليشيا، بل غرف التحكم الخارجية. المليشيا فقدت السيطرة على الأرض والشعب وحتى حواضنها، وانتقل القرار العسكري والسياسي والمالي إلى أبوظبي، التي تواصل تقديم الدعم تحت واجهات متعددة: مساعدات إنسانية، مبادرات سياسية، وتأثير مباشر في مراكز القرار في الغرب عبر استثماراتها ونفوذها المالي.

إذن، التفاوض هنا مع من يمول الحرب ويخطط لها ويغذي استمرارها.

4

التفاوض: أداة مكملة للحسم العسكري

التفاوض ليس بديلًا عن الحسم العسكري، بل أداة مكمّلة له. فكما أن النصر في الميدان يتحقق بالإنهاك والتطويق والتقدم، فإن النصر السياسي يُصان ويُستثمر بالتفاوض من موقع القوة.

إذا كانت الإمارات قد استثمرت في الحرب لتحقيق مكاسب استراتيجية أو اقتصادية أو جيوسياسية، فالتفاوض وسيلة لإقناعها بأن كلفة هذه المقامرة باتت تفوق عائدها، وأن مشروعها خاسر على كل المستويات، وأن السودان لن يُدار من الخارج ولا بالمليشيات.

التفاوض هنا هو رسالة واضحة: نحن ندرك من أنتم، ونعرف ما تريدون، وندير الصراع على كل مستوياته العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية. التفاوض يُكمل الحسم العسكري.

5

إذا كانت هذه مسببات التفاوض مع الإمارات، فإن شرطًا واحدًا يظل هو الحاسم في أي حديث عن التفاوض، ألا وهو وقف العدوان ابتداءً؛

بمعنى أن تتوقف أبوظبي عن تمويل المليشيا بالسلاح وكافة أشكال دعمها، ثم بعدها يمكن أن نذهب إلى موائد التفاوض.

أما أن يكون السلاح متدفقًا، والإمارات مستمرة في تسعير الحرب بواسطة المليشيا أو وكلائها في المنطقة، حفتر وغيره، فإن ذلك مجرد عبث سياسي ومضيعة للوقت.

6

محددات التفاوض

المشكلة ليست في التفاوض بحد ذاته، بل في محدداته وشروطه. فلا ينبغي أن يُدار التفاوض من موقع المساواة بين طرفين متكافئين، بل من موقع دولة تخاطب دولة أخرى تجاوزت الأعراف الدبلوماسية والسيادة، واتخذت العدوان وسيلة لتحقيق أهدافها.

لذا، يجب أن يُدار التفاوض عبر قنوات دبلوماسية سيادية وشفافة، من موقع قوة، وليس من موقع مساواة مع دولة تجاوزت السيادة.

ثانيًا : التفاوض من موقع القوة.

السودان ليس دولة تابعة ولا خانعة، وهو اليوم في لحظة مفصلية تمنحه أوراقًا تفاوضية نادرة:

فلا استقرار في البحر الأحمر دون السودان، ولا نمو حقيقي في شرق أفريقيا دون ممراته، ولا مستقبل للمشاريع الإقليمية مهما تكاثرت الموانئ دون إرادته المستقلة.

كل هذا يجب أن يكون على الطاولة، لا من باب التهديد، بل من باب إثبات الحضور والندية.

ثالثًا : التفاوض مع الإمارات لا يجب أن يتحول إلى رهن سيادة السودان أو فرض خارطة سياسية على مقاس طرف خارجي.

ما قد يُطلب اليوم كتنازل سياسي، قد يصبح غدًا سببًا في انفجار جديد إذا شعر السودانيون أنهم استُبعدوا لإرضاء جهة أجنبية، أو أن مواردهم نُهبت باسم الاستثمار.

المطلوب اليوم ليس فقط الانتصار في الميدان، بل الانتصار في معركة الحفاظ على القرار الوطني.

طلبات أبوظبي قد تُعرض، لكن قبولها أو رفضها يجب أن يتم من داخل مؤسسات دولة ذات سيادة، وينبغي أن يكون التفاوض شفافًا ومعلنًا. على ماذا نتفاوض مع الإمارات ؟ نواصل في الحلقة القادمة.

*عادل الباز*

  • Related Posts

    السودان بين نيران نطنز ولهيب الأسواق العالمية

    *السودان بين نيران نطنز ولهيب الأسواق العالمية* ➖⬛➖ مع الساعات الأولى من يوم الجمعة 13 يونيو 2025، نفّذت إسرائيل ضربة عسكرية على منشأة نطنز النووية الإيرانية، في تطور خطير أعاد إشعال التوتر في الشرق الأوسط، لكنه أيضًا أطلق سلسلة ارتدادات اقتصادية مدوية في الأسواق العالمية. لم تكن الضربة مجرد عملية عسكرية محدودة، بل رسالة واضحة بأن المواجهة المباشرة بين طهران وتل أبيب باتت على الأبواب، ومعها تحركت الأسواق كما لو أن الحرب قد بدأت فعلًا. أسعار النفط كانت أول من استجاب، حيث قفز خام غرب تكساس بنسبة فاقت 12% وسط مخاوف من أن تردّ إيران بإغلاق مضيق هرمز، وهو ممر حيوي يمر عبره جزء كبير من إمدادات النفط العالمية. التصعيد المحتمل رفع التقديرات بأن تصل أسعار النفط إلى 100 دولار أو أكثر، وهو ما سيضغط على اقتصادات العالم، خصوصًا تلك التي تعتمد على واردات الطاقة، في وقت لم تتعافَ فيه بعد من أزمات ما بعد الجائحة والحرب في أوكرانيا. المستثمرون هرعوا كعادتهم إلى الملاذات الآمنة، فارتفع الذهب إلى مستويات تجاوزت 3,400 دولار للأونصة، بدعم من التوترات الجيوسياسية وتوقعات تخفيض أسعار الفائدة الأميركية في سبتمبر. كما ارتفع الدولار مقابل معظم العملات، وتعرضت أسواق المال في آسيا وأوروبا لخسائر سريعة. الخوف لا يحتاج إلى تبرير حينما تكون الصواريخ قد استهدفت منشأة نووية في بلد بحجم إيران، والعالم بأسره على حافة بركان. أما السودان، فهو من الدول الأكثر تأثرًا بهذه التطورات، نظرًا لوضعه الداخلي الحرج. فالاقتصاد السوداني المنهك أصلًا بفعل الحرب الدائرة في البلاد يواجه الآن أزمة إضافية. ارتفاع أسعار النفط يعني زيادة تكلفة استيراد الوقود، ما سيزيد التضخم بشكل حاد، ويُضعف الجنيه السوداني أكثر أمام الدولار. أسعار السلع سترتفع تلقائيًا، والدولة التي تفتقر للاحتياطيات ولشبكات دعم فعّالة ستكون عاجزة عن مواجهة الزيادة المتوقعة في تكاليف المعيشة. ورغم أن السودان يملك ورقة رابحة نظريًا عبر صادرات الذهب، إلا أن عدم الاستقرار الأمني يمنع تحقيق استفادة فعلية من ارتفاع أسعار المعدن الأصفر. تهريب الذهب مستمر، وسيطرة الحكومة على العائدات محدودة في ظل الحرب، ما يضيع فرصة الاستفادة من هذه الظروف العالمية الاستثنائية. وفي خضمّ هذه التحديات، لا بد من التأكيد أن السودان لا يملك ترف الانتظار أو الترقب. أي تأخير في حسم الحرب سيضاعف الكلفة الاقتصادية، وسيزيد من هشاشة الدولة والمجتمع. المطلوب اليوم استراتيجية حاسمة لإنهاء الحرب عسكريًا، واستعادة السيطرة على المنافذ الحيوية، وفرض القانون على منابع الإنتاج والصادرات، لا سيما الذهب. فالمجتمع الدولي في هذه اللحظة مشغول بأزمة الشرق الأوسط، ولن يلتفت إلى السودان ما لم يتحرك من الداخل ويعيد ترتيب أوراقه. الضربة الإسرائيلية للمواقع النووية الإيرانية أطلقت ديناميكية جديدة في الاقتصاد العالمي، عنوانها القلق وعدم اليقين. أما السودان، فإن لم يتحرك الآن وبشكل حاسم، فقد يجد نفسه وسط إعصار لا يملك فيه لا القدرة على المواجهة ولا خيار الهروب. *محمد كمير*

    Read more

    Continue reading
    مهمة وطنية في لحظة حرجة: كيف تدعم النخب ومنظمات المجتمع المدني د. كامل إدريس في إنجاح التحول؟!

    *مهمة وطنية في لحظة حرجة: كيف تدعم النخب ومنظمات المجتمع المدني د. كامل إدريس في إنجاح التحول؟!.* ➖️◾️➖️ ▪️في لحظةٍ تتداخل فيها آلام الماضي بتحديات الحاضر، وتطلعات المستقبل، يتسلّم الدكتور كامل إدريس مسؤولية رئاسة الوزراء في السودان، محاطًا بميراث من الأزمات وفرص قليلة، ولكن ثمينة. رجل قادم من فضاء القانون الدولي والإدارة الرصينة، لكنه يواجه واقعًا محليًا معقدًا يحتاج إلى أكثر من الكفاءة الفردية. وهنا، يبرز السؤال المحوري: كيف يمكن للنخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني أن تكون سندًا حقيقيًا لهذا المسار؟ لا عبئًا إضافيًا عليه؟!. 1 *.. النخب السياسية: من الخصام إلى التوافق!.* ▪️لقد أنهك السودان صراعه النخبوي الممتد لعقود، حيث غلبت المصالح الحزبية الضيقة على الرؤية الوطنية الجامعة. اليوم، الواجب الأخلاقي والسياسي يحتم على هذه النخب أن: 🔸️تضع حدًا لخطاب الإقصاء والتشكيك المتبادل، و تلتزم بميثاق شرف وطني يدعم العملية الانتقالية. 🔸️تتبنى خطابًا سياسيًا عقلانيًا وبنّاءً يقدّم المصلحة العامة على المكاسب الفئوية. 🔸️تمنح رئيس الوزراء مساحة من الثقة والهدوء السياسي ليعمل دون ضغوط شعبوية أو مناورات حزبية. 🔸️تشارك في رسم الأولويات الوطنية من خلال الحوار لا عبر التصعيد أو التخريب. ▪️إن أخطر ما يهدد حكومة انتقالية يقودها تكنوقراط مستقلون، هو أن تتحوّل القوى السياسية إلى معاول هدم باسم المعارضة بدل أن تكون شركاء بناء باسم الوطن. 2. *منظمات المجتمع المدني: من الشكوى إلى الشراكة* ▪️هذه المرحلة تتطلب من منظمات المجتمع المدني أن تعيد تعريف دورها، لتصبح: 🔺️*أدوات ضغط إيجابي، لا صدى سلبي للشكاوى فقط.* 🔺️*شركاء في التوعية، ومراقبة الأداء، وبناء الثقة الشعبية.* على هذه المنظمات أن: 🔸️تفعّل أدوات الرقابة المجتمعية على الأداء الحكومي، بمهنية لا بعدائية. 🔸️تدعم جهود المصالحة الوطنية، والتماسك الاجتماعي، خاصة في المجتمعات المنهكة من النزاعات. 🔸️تسهم في حملات التوعية الاقتصادية، ومحاربة الشائعات التي تعرقل الإصلاح. ▪️تمد الحكومة بالمقترحات العملية والتقارير الميدانية حول أولويات المجتمعات. ▪️إن منظمات المجتمع المدني يمكن أن تكون بمثابة الأذرع الناعمة للدولة، إذا أحسنت التموضع وابتعدت عن الاستقطاب السياسي. 3. *كامل إدريس… رجل المرحلة ولكن..* ▪️يمتلك د. كامل إدريس رصيدًا دوليًا من النزاهة والكفاءة، لكن النجاح في الحكم داخل السودان لا يتوقف على المؤهلات وحدها، بل على القدرة في: ▪️إدارة التوازنات الدقيقة بين القوى المدنية والعسكرية. ▪️مخاطبة الشارع بلغة واقعية وأمل، بعيدًا عن الوعود المجانية. ▪️بناء تحالف وطني عريض يضم النخب السياسية والمجتمعية حول برنامج إنقاذ وطني حقيقي، لا مجرد حكومة تسيير أعمال. ▪️وهنا، يكون دور النخب هو منح هذا المشروع السياسي الحصانة المعنوية والسياسية، لا دفعه للفشل وتوظيفه كورقة انتخابية مسبقة. *خاتمة* ▪️هذه اللحظة ليست لحظة أشخاص، بل لحظة مصير أمة. كل الذين يراقبون المشهد من منصات الانتقاد أو المواقف المسبقة، مدعوون اليوم إلى الانخراط الإيجابي في مشروع إنقاذ السودان. فنجاح د. كامل إدريس ليس نجاحًا لحكومة مؤقتة، بل فرصة أخيرة لعودة الدولة السودانية إلى مسارها الطبيعي. *د. عبدالرؤوف قرناص*

    Read more

    Continue reading

    اترك تعليقاً

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *