*الحزب الجديد!* ➖◼️➖ ظلّت التجربة السياسية في السودان، منذ الاستقلال في العام 1956، تدور في فلك أزمات متكررة، لم يكن سببها غياب الأحزاب، بل عجزها عن تجديد مفاهيم العمل السياسي وبناء مشروع وطني جامع. فقد تنوّعت الكيانات وتعدّدت الأسماء، لكن كثيرًا منها ظلّ أسير الأجندات الضيّقة وواجهة لصراعات النخب الفاشلة. في هذا السياق، لا يكفي تأسيس حزب جديد كـ “حزب الكرامة” أو غيره لتجاوز الانسداد في الأفق السياسي ، ما لم يُبنَ على وعيٍ بطبيعة الدور الحزبي نفسه: من يُمثّل هذا الحزب؟ ماذا يُقدّم؟ وكيف يُسهم في إعادة تعريف الدولة والمجتمع؟ فالتجديد المطلوب اليوم ليس في الشكل، بل في الرؤية، والوظيفة، والمفاهيم. رئيس تحرير صحيفة “المجهر السياسي”، الهندي عز الدين، كتب بالأمس معلّقًا على هذا الاسم في منصة “إكس”، مُبديًا تحفّظه على رمزية “الكرامة”، التي يرى أنها ارتبطت وجدانيًّا بعملية عسكرية “معركة الكرامة”، اشترك فيها الشعب السوداني، لكنها ليست إطارًا سياسيًّا يمكن البناء عليه لمشروع حزبي طويل الأمد. إلا أنه لم يناقش الموضوع . في هذا المقال نحاول مناقشة جوهر الفكرة بعيدًا عن التشكيك في دوافع من يقف خلفها، سواء من رجال أعمال أو قيادات سياسية أو ناشطين. عليه دعونا نطرح سؤالًا تأسيسيًّا: هل نحن بحاجة إلى قيام “حزب جديد”، أم إلى إعادة تعريف جوهر الفكرة الحزبية والسياسية في السودان؟ بالنظر إلى الواقع السياسي الذي تعيشه بلادنا منذ سنوات، وما تشهده الساحة من ارتباك عميق في المفاهيم والولاءات، إلى جانب بعض الممارسات الحزبية التي ترقى إلى مستوى خيانة الوطن؛ فالأحزاب التقليدية، رغم إرثها التاريخي، باتت عاجزة عن التجديد، بينما تتكاثر أخرى بلا هوية، وغالبًا ما تتأسّس وفق منطق المكايدة أو الطموح الشخصي، لا وفق برنامج سياسي جاد يعكس تطلّعات الشارع ويترجم أولويات المرحلة. إن تأسيس حزب حقيقي في هذا الظرف يتطلّب ما هو أعمق من اختيار اسم جاذب أو شعار طَموح؛ يتطلّب أولًا إعادة تعريف مفهوم الحزب باعتباره أداة ديمقراطية لصياغة الإرادة الجماعية، لا وسيلة لتكريس المصالح أو تحصيل المكاسب الضيّقة. إذا لم تتحرّر الأحزاب، القديمة والحديثة، من منطق التوظيف السياسي والمادي، ستبقى أسيرة أدوارها الوظيفية في صراعات عبثية تُعيد إنتاج الفوضى بدل أن تُنتج مشروعًا وطنيًّا جامعًا. لقد تحوّل العمل الحزبي في بلادنا إلى فضاء تغلب فيه الحسابات الشخصية والانتماءات الضيّقة على الرؤية الوطنية الجماعية، مما عطّل قدرتها على بناء مؤسسات تعبّر بصدق عن هموم الناس وتحوّل تطلّعاتهم إلى سياسات واقعية منتجة و فاعلة. المواطن السوداني لم يعد يبحث عن زعيم مُلهم أو شعار براق، بل عن حزب يمتلك برنامجًا اقتصاديًّا واجتماعيًّا واضحًا يعالج أزمات المعيشة، والخدمات، والعدالة الاجتماعية. وتُثبت تجارب إقليمية أن الأحزاب التي تقوم على برامج لا على شعارات هي التي أحدثت التحول المنشود. ففي تركيا، مثّل حزب العدالة والتنمية نموذجًا لحزب انطلق من برنامج إصلاحي مكّنه من التدرّج من المعارضة إلى الحكم. وفي رواندا، قادت الجبهة الوطنية بقيادة بول كاغامي نهضة شاملة في بلد خرج من جحيم الإبادة عبر خطاب وطني ومشروع تنموي صارم. هذه النماذج تؤكد أن الحزب ليس مجرد وعاء تنظيمي، بل أداة لتجسيد إرادة جماعية ومشروع لبناء الدولة. ومن هنا، فإن إعادة هيكلة المشهد الحزبي في السودان لا تتطلّب مزيدًا من الكيانات، بل اندماجًا عقلانيًّا وفق المشتركات الفكرية والرؤى العملية. المطلوب ليس تعدّد اللافتات، بل وجود ثلاثة أو أربعة أحزاب قوية تُمثّل التيارات الكبرى: الإسلامي، الليبرالي، القومي، اليساري، وتضم تحت مظلّتها الحركات والتيارات عبر برامج واضحة، لا تحالفات ظرفية أو انتهازية. من أبرز معوّقات تطوّر الأحزاب السودانية استمرار الارتهان لنموذج “الزعيم الأوحد”، الذي يُختزل فيه العمل السياسي في شخصية فردية ترتبط غالبًا برمزية تقليدية أو تاريخية. هذا النموذج…
Read more